فصل: تفسير الآية رقم (72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (72):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [72].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} أي: من مكة إلى المدينة لنصر الله ورسوله {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي: طاعته {وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ} أي: وطنوا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي: يتولى بعضهم بعضاً في النصرة والمظاهرة، ويقوم مقام أهله ونفسه، ويكون أحق به من كل أحد، ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال فيما بلغنا: «تآخوا أخوين أخوين»، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «هذا أخي». وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله وعم النبي صلى الله عليه وسلم، وزيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم أخوين. وإليه أوصى حمزة يوم أُحد، حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت.
وجعفر ذو الجناحين الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل أخوين، وأبو بكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة أخوين، وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين، وأبو حذيفة وعباد بن بشر أخوين، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين، وأبو ذر الغفاري والمنذر بن عَمْرو أخوين، وسلمان الفارسي وأبو الدرداء أخوين، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين، وبلال الحبشي وأبو رويحة الخثعمي أخوين.
ولما خرج بلال إلى الشام، وأقام فيها مجاهداً، قال له عمر: إلى من نجعل ديوانك؟ قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبداً، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبيني. فضم إليه، وضم ديوان الحبشة إلى خثعم، لمكان بلال منهم.
قال ابن إسحاق: فهؤلاء من سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه:
تنبيه:
نقل الواحدي عن ابن عباس وغيره، أن المراد من هذه الولاية، هي الولاية في الميراث. قال ابن كثير: لما تآخوا كانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة، حتى نسخ الله ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد.
قال الخفاجي: فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري، إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري. واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة، ثم توارثوا بالنسب بعد، إذ لم تكن هجرة.
والولي القريب والناصر، لأن أصله القرب المكاني، ثم جعل للمعنوي، كالنسب والدين والنصرة.
فقد جعل صلى الله عليه وسلم، في أول الإسلام، التناصر الديني أخوة، وأثبت لها أحكام الأخوة الحقيقية من التوارث، فلا وجه لما قيل إن هذا التفسير لا تساعده اللغة، فالولاية على هذا، والوراثة المسببة عن القرابة الحكمية. انتهى.
ومراده بما قيل، ما ذكره الرازي في تضعيف تفسير الولاية بالوراثة، حيث قال: واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى، لأن هذا اللفظ مشعر بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب.
ويقال: السلطان ولي من لا ولي له، ولا يفيد الإرث، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ولا يفيد الإرث، بل الولاية تفيد القرب، فيمكن حمله على غير الإرث، وهو كون بعضهم معظماً للبعض، مهتماً بشأنه، مخصوصاً بمعاونته ومناصرته، والمقصود أن يكونوا يداً واحدة على الأعداء، وأن يكون حب كل واحد لغيره جاريًا مجرى حبه لنفسه.
وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى، كان حمله على الإرث بعيداً عن دلاله اللفظ، لاسيما وهم يقولون: إن ذلك الحكم صار منسوخاً بقوله تعالى في آخر الآية: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به، ثم الحكم بأنه صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه؟ هذا في غاية البعد، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك، فحينئذ يجب المصير إليه، إلا أن دعوى الإجماع بعيدة.
وأقول: لعموم هذا الخطاب ونظمه وجه في إثبات التوارث، لاسيما وقد نفى تعالى ولاية من لم يهاجر نفياً استغرق أقرب الأقارب حيث قال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} أي: بأن أقاموا في بواديهم: {مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} أي: إلى المدينة. وقول تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي: إذا استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني، فيجب عليكم أن تنصروهم على أعدائهم المشركين، لأنهم إخوانكم في الدين {إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} أي: عهد ومهادنة إلى مدة، فلا تعينوهم عليهم، لئلا تخفروا ذمتكم، وتنقضوا عهدكم {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فلا تخالفوا أمره.
تنبيهات:
الأول: احتج من ذهب إلى أن المراد من قوله تعالى: {مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} أي: من توليتهم في الميراث، وأنه هو المارد في الآية السابقة أيضاً، بقوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} فإن هذا موالاة في الدين، فحينئذ لا يجوز حمل الموالاة المنفية على النصرة والمظاهرة، لأنها لازمة لكل حال لكلا الفريقين.
وأجاب الرازي بما معناه: إن الولاية هنا ليس المراد بها مطلق التولي حتى يرده ما ذكروه، بل عنى بها معنى خاص، وهو علاقة شديدة، ومحبة أكيدة، وإيثار قوي، وأخوة وثيقة، ولا يلزم من النصر التولي، فقد ينصر المرء ذمياً لأمر ما ولا يتولاه، ويدافع عن عبده أو أمته ويعينهما ولا يتولاهما- والله أعلم-.
الثاني: يظهر أن هذه الآية كسوابقها مما نزل إثر واقعة بدر، وطلب من كل من آمن من البادين أن يهاجر، ليكثر سواد المسلمين، ويظهر اجتماعهم، وإعانة بعضهم لبعض، فتتقوى بألفتهم شوكتهم، ولم يزُل طلب الهجرة إلا بفتح مكة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد فتح مكة». رواه البخاري عن مجاشع بن مسعود.
الثالث: شمل نفي الموالاة عن الذين لم يهاجروا وقتئذ، حرمانهم من المغانم والفيء. روى الإمام أحمد عن بريدة بن الحُصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً. وقال: «اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتها ما أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم من التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك، أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم».
قال ابن كثير: انفرد به مسلم، وعنده زيادات أخر.
الرابع: قرأ حمزة {ولايتهم} بكسر الواو، الباقون بفتحها.
قال الشهاب: جاء في اللغة: الولاية مصدراً بالفتح والكسر، فقيل: هما لغتان فيه بمعنى واحد، وهو القرب الحسي والمعنوي، وقيل: بينهما فرق، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه، والكسر ولاية السلطان، قاله أبو عبيدة. وقيل الفتح من النصرة والنسب. والكسر من الإمارة. قاله الزجاج.
وخطأ الأصمعي قراءة الكسر، وهو المخطئ لتواترها، واختلفوا في ترجيح إحدى القراءتين. ولما قال المحققون من أهل اللغة: إن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء، ويجعل فيه كاللفافة والعمامة، وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال، كالكتابة والخياطة، ذهب الزجاج وتبعه غيره إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعة، لذا جاء فيها الكسر، كالإمارة.
وهذا يحتمل أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك، فتكون حقيقة ويحتمل- كما في بعض شروح الكشاف- أن تكون استعارة، كما سموا الطب صناعة. انتهى.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (73):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [73].
{وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي: فلا يتولاهم إلا من كان منهم، ففيه إشارة إلى نهي المسلمين عن موالاتهم، وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم، وإن كانوا أقرب وقد استدل به على أنه لا توارث بين المسلمين والكفار.
روى الحاكم في مستدركه عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافراً مسلماً، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، رواه الشيخان عنه بلفظ: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».
وقوله تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أي: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل، وتولي بعضكم بعضا، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأن المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك، كان الشرط ظاهراً، والفساد زائداً، في الإعتقادات والأعمال.
وقيل: الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو النصر أو الإثبات. وقيل إنه للإستنصار المفهوم من الفعل، والفتنة: إهمال للمؤمنين المستنصرين بنا، حتى يسلط علينا الكفار، إذ فيه وهن للدين.؟
قال الشهاب: وفيه تكلف، أي: فالأوجه عوده للتولي والتواصل- كما بينا-.
قال الرازي: بيان هذه الفتنة والفساد عن وجوه:
الأول: أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين، وقلة عددهم وزمان قوة الكفار، وكثرة عددهم، فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكفار.
الثاني: أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم، فيصير ذلك سبباً لجرأة الكفار عليهم.
الثالث: أنه إذا كان جميع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدد والعدد صار ذلك سبباًَ لمزيد رغبتهم فيما هم فيه، ورغبة المخالف في الإلتحاق بهم. انتهى.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (74):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [74].
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} عود لذكر المهاجرين والأنصار، للثناء عليهم، والشهادة لهم، مع الموعد الكريم، فلا تكرار، لما أن مساق الأول لإيجاب التواصل بينهم، فذكرهم هاهنا لبيان تعظيم شأنهم، وعلو درجتهم.
قال الرازي: وبيانه من وجهين:
الأول: أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم، وذلك يدل على الشرف والتعظيم.
والثاني: وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا من ثلاثة أوجه:
أولها: قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} فقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} يفيد الحصر، وقوله: {حَقّاً} يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك، لأن من لم يكن محقاً في دينه، لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين.
وثانيها: قوله: {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.
وثالثها: قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} والمراد منه الثواب الرفيع الشريف. انتهى.
وقد أثنى تعالى على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه الكريم- والله أعلم-.

.تفسير الآية رقم (75):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [75].
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} أي: من جملتكم، أي: المهاجرون والأنصار، في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة، وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم.
وهل المراد من قوله: {مِنْ بَعْدُ} هو من بعد الهجرة الأولى، أو من بعد الحديبية. وهي الهجرة الثانية، أو من بعد نزول هذه الآية، أو من بعد يوم بدر؟ أقول:
واللفظ الكريم يعمها كلها، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص.
{وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ} أي: في حكمته وقسمته، أو في اللوح، أو في القرآن، لأن كتاب الله يطلق على كل منها {إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه، التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح.
تنبيهات:
الأول: إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وما بعده بالتوارث.
أخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال: كان الرجل يحالف الرجل، ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما من الآخر، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ} الخ، إلا أن في إسناده من فيه مقال.
وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم، فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض، وذلك أن تلك الآية، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث، بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة، إلا ما خصه الدليل، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم.
قال الرازي: وهذا أولى، لأن تكثير النسخ، من غير ضرورة وحاجة، لا يجوز.
الثاني: استدل بالآية من ورث ذوي الأرحام، وهم من ليسوا بعصبات، ولا ذوي سهام. قال: ويعضده حديث: «الخال وارث من لا وارث له»، وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات، ومن الحديث: «من كان وارثه الخال فلا وارث له»، ورد بأنها عامة فلا موجب للتخصيص، وبأن معنى الحديث: من كان لا وارث له غيره، لحديث: «أنا عمد من لا عماد له».
ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب، أو بالتنزيل، وهل يرث القريب مع البعيد، وهل يفضل الذكر على الأنثى أو لا؟ والآية محتملة. أفاده بعض مفسري الزيدية.
قال ابن كثير: ليس المراد بقوله: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ} خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة، بل يدلون بوارث كالخالة والخال، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم، كما يزعمه بعضهم، ويحتج بالآية ويعتقد ذلك صريحاً في المسألة، بل الحق أن الآية عامة، تشمل جميع القرابات، كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة، والحسن وقتادة وغير واحد، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالإسم الخاص، ومن لم يورثهم يحتج بأدلة، من أقواها حديث: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».
قالوا: فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى، فلما لم يكن كذلك، لم يكن وارثاً. انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا الإستدلال، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض، على أن معنى الحديث أعطى كل ذي حق حقه مفصلاً ومجملاً، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل.
وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في تاريخ الوزراء في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات، نأثرها هنا، لأنها جمعت فأوعت، قال رحمه الله:
ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابة إليه في أمر المواريث: وصل كتاب الأمير، يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجباً من مال المواريث لبيت المال، ومالاً أراه واجباً منه، وتلخيص ذلك وتبيينه- وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله-.
الناس مختلفون في توريث الأقارب، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة- إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم- لجماعة من المسلمين وبيت مالهم، وكذلك يقول في الفصل بعد السهمان المسماة، إذا لم تكن عصبة، ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت.
وقد خالفه عُمَر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وجعلوا ما يفضل من السهمان رداً على أصحاب السهام من القرابة، وجعلوا المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه.
والسنة تعاضد ما روي عنهم، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت، وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه، وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي.
قال الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. فصير القريب أولى من البعيد، وإلى هذا ذهب عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة، وعليه اعتمدوا، وبه تمسكوا- والله أعلم-.
ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين، وترك قبول من سواهم ممن لا يحلق بدرجتهم بسابقته.
وإذا رد أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف، فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيداً لا يفي علمه بعلم عمر وعلي وعبد الله؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت، واطراح ما روي عنهم، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه، وبالسنة فيما أفتوا به؟ والرواية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة.
فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهروي عن المقدام ابن معدي كرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخال وارث من لا وارث له يرث ماله، ويعقل عنه».
وكذلك بلغنا عن شَرِيك بن عبد الله عن ليث، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وعن ابن جريج عن عُمَر بن سلم، عن طاوس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك.
وذكر عن عُبَاْدَة بن أبي عَبَّاد عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عُتْبَة عن محمد بن يحيا بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال: توفي ثابت بن أبي الدحداح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي: «أله فيكم نسب»؟
قال: فدفع تركته إلى ابن أخته فقد أوجب عليه السلام، بما نقلته عنه هذه الرواية، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السهمان المبينة في الكتاب.
وأعطى الجدة السدس من الميراث، ولا فرض لها، وفي ذلك الإتفاق، وفيما صير لها من السدس، دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها؟ إذا بطلت السهام ولم يكن من أهلها، وأنه أولى بالميراث من الأجنبي.
والمروي عن زيد بن ثابت أنه جعل المفضل عن سهام الفرائض، وكل المال، إذا سقطت السهام بعد أهلها، لجماعة المسلمين، فجعلهم كلها وارثاً، وجعل ما يصير لهم من ذلك- في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك- يكون فيما روي عنه للناس كافة، وعددهم لا يحصى، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض، مشارقها ومغاربها.
وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس بممكن، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابرالأئمة.
وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ} فقال فيه: كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب، مُنع الحليف بما فرض من السهمان فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص، فذلك غير واجب مع عدم الدليل، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم.
وبعد، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض، لوجب في بدء، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما، وعلى المقدم من حكمها، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذه التأويل من له سهم دون من لا سهم له، فإذا ارتفع المانع، رجع الحكم إلى بدئه.
ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم، وإن كان لا وارث سواه، وهذا يدل على فساد تأويلهم، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد. وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد، وترك الرواية عن عمر وعلي وبعد الله عليهم السلام جانباً، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب، وأن يجعل ذا الرحم أولى، لأنه لا يفضل الأجنبي بالقرابة.
وترتيب المواريث في الأصل، يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة، كالأخ للأب والأم، والأخ للأب، وابن العم للأب والأم، وابن العم للأب واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وولد الولد، من سفل منهم ومن ارتفع، يعمهم هذا الاسم، إلا أن الأقرب منهم، في معنى الآية، أحق من الأبعد، فإذا كان ذلك كذلك، كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي تقرب بها دونه.
وبعد، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة، إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعلي صلوات الله عليهما، وما روي عن ابن مسعود، ثم لم يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وترجمان القرآن، وبحر العلم، ومن كان إذا تكلم سكت الناس، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم! فقهه في الدين وعلمه التأويل، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب.
وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي وعبد الله والجماعة، وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين، أعزه الله، يستقضون الحكام، فيقضون برد المواريث على الأقارب، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم، ولا ترودنه متجاوزاً للحق فيه، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة، وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف، واقتدى بخلفاء الله، ومال إلى أفضل المذهبين، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير، وتسديده، والحمد لله رب العالمين. انتهى.
ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة، وأنه حكى فيه أن عُمَر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم، رأوا أن يرد على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث، وإذا لم يكن للمتوفى عصبة يحوز باقي ميراثه، وجعلوا، رضي الله عنهم، تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمه، إن لم يكن له وارث سواهم، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترويثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة. انتهى.
الثالث: استدل بالآية الإمامية على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة، لاندراجها في عموم الأولوية.
والجواب- على فرض صحة هذه الدلالة- أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه.